التخطي إلى المحتوى
ما الذي نملكه في الحياة

ما الذي نملكه في الحياة!

 

المحبة!

 

إننا إذ نعيش مع ذواتنا إذا صح التعبير، نعيش مع غيرنا كذلك، فالانسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش منفرداً، وعليه فإن ما نملك في الحياة فعلاً له جانبين: أحدهما ذاتي محض، والآخر ذاتي-موضوعي في علاقاتنا مع الغير:

كيف؟

 

(١) الجانب الذاتي:

* هو أننا نملك قبل كل شيء ضميراً حياً نابضاً قادراً على تأنيب الذات، ويدرك الخطأ ويسعى إلى تصحيحه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإن لم ندرك اخطائنا أحياناً واحتجنا إلى من يلفت انتباهنا إليها، وأحيانا أخرى لا نتدارك الخطأ في الوقت المناسب لاسباب عدة كالتعب والهم والحزن أو الغضب، وقد لا ندركه حتى يصبح غير قابل للإصلاح، إلا أن هذا عرضي قليل أو نادر ولا يعبر عنا في معظم الأيام والمواقف، فالكمال لله فقط، ونمتلك أيضاً سريرةً نقيةً سويةً، وسلاماً داخلياً مع النفس ورضى عنها، وقلباً صادقاً صافياً محباً أنيقاً رشيقاً في دقاته وآهاته، رفيقاً لكل القلوب الصادقة، وروحاً هفهافةً شفافة رفرافةً رقراقةً مبدعةً خلاقة، روحاً تحب الدنيا وتحب الناس أو كما كَتبتُ يوما ما في أحد النصوص:

 

“تشتاقُ الكلمة للقرطاسْ

وتتوقُ الوردة للإحساسْ

وأنا قلبي يعشق يومي

فيحب الدنيا ويحب الناسْ”

 

* والذاتي أيضاً هو أننا نملك معرفةً ونملك علماً نافعاً يبقى، أنتجناه أو ساهمنا في انتاجه وساهمنا من خلاله في مسيرة تقدم البشرية مهما كان صغيراً، ونملك إبداعاً مهنياً أو جمالياً أو فكرياً أو فنياً أو أدبياً أو رياضياً أو في أي مجال من مجالات الإبداع الأخرى أو مجالات إسعاد الناس، ونملك الخلق الكريم في الموقف والعمل، في القول والفعل، ونملك ما نتركه من سيرة حسنة وإرث حضاري وثقافي وأخلاقي في أولادنا وتلاميذنا والاجيال اللاحقة! وكما برحت اكرر في كتابات الرثاء لمن فقدناهم:

 

“ومن الناس حين يُذكرون تَهبُ نسمةٌ طيبةٌ عطرةٌ ويحضرُ الرضى فيخال لنا بأنهم بيننا أحياء يرزقون!”

 

* والذاتيّ أيضاً هو أننا نملك الحرية والكرامة في الذات، فمن كانت حريته وكرامته في ذاته لا يمكن أن تنتزع منه أبدا، فلا يستطع أحد انتزاعها منا وتبقى في حياتنا وفي ذكر الناس لنا أبد الآبدين، حتى وإن قيدونا تظل أرواحنا حره ورؤوسنا مرفوعة ما حيينا ولا تنحني إلا بالموت، أو كما قال أمل دنقل عن سبارتاكوس محرر العبيد: “معلقٌ أنا على مشانق الصباح والرأس محنيهْ، .. لأنني لم احنها حيهْ”، ونملك أن نعرف في حينه ونتذكر فيما بعد قولنا الطيب وفعلنا الخيِّر ونكون على ذلك في سلام ورضى في حياتنا وفي أواخرها حين تصبح الذكرى قوتاً لما تبقى من أيامنا، وحين يرفرف طائر الموت نملك أن نراه بدون جزع أو خوف متكئين على مخزون الذكرى والذاكرة العظيمة.

 

(٢) الجانب الذاتي-الموضوعي:

* على صعيد علاقاتنا مع الغير نملك عطاءً غير مشروط وغير مُغرض، عطاءً لا مصلحة فيه حتى لو تحققت مصلحة عرضية أو ثانوية، عطاءً نقياً تقياً مطلقاً صالحاً لوجه الله، عطاءً بغير مَنٍّ أو ادعاء أو أذى، عطاءً للغير بشكل فردي (أي مع الأفراد) من خلال من نعلِّم أو ندعم أو نساعد أو نشجع أو ننصح أو حتى نبدي ابتسامة أو مواساة أو كلمة طيبة، وعطاءً للغير بشكل جماعي من خلال العمل الطوعي التطوعي والخدمة العامة ووضع مصلحة الناس نبراساً لنا بما في ذلك في الخطابة والكتابة والإبداع بغية إسعاد الناس وفي كل نشاط موجه لخدمة الناس.

* ونملك أيضاً، وهذا غاية في الأهمية والجمال وفي تقديري جوهر هذه الكتابة، نملك المودة، نملك المحبة، تلك التي لا تتغير تحت أي ظرف من الظروف، محبة خالصة لا مصلحة فيها مثل محبة الأم والأب لأطفالهما، ومحبة الأخوة والأخوات، ومحبة الأهل والاقارب والزملاء والأصدقاء، وأخص أيضاً المحبة بين طرفين في كل صورها العظيمة، بما في ذلك وعلى وجه الخصوص بين حبيبين أو زوجين، نملك لحظات المحبة الصادقة المخلصة الخالصة مع من نحب، تلك التي نحس فيها أننا خارج الوقت وخارج المكان، تلك التي ننسى فيها اسمائنا ومن نحن وأين نحن وكأننا أرواح أو أفكار أو مشاعر أو آهات تهيم في النعيم الإنساني الخالص النقي العذب، لحظات من المشاعر الدافئة والمحبة الدافقة ومن الصدق المطلق والوجود الحقيقي بلا اقنعة وبدون أية مصلحة أو خداع، حين نسمو كبشر فنحب ونعشق ونعطي من أرواحنا بدون حدود، وكما جاء في مقال طويل متعدد الحلقات نشر قبل فترة على هذه الصفحة الزرقاء بعنوان “جدلية الإنسان والحب”، وكما جاء في المقال السابق على هذه الصفحة أيضاً قبل أيام بمناسبة عيد الحب “حوال العاطفة والجسد”، نجد ان استجابة الجسد للحب هي الأقرب من كل عواطفنا الأخرى (كالحزن والكراهية والغضب والحسد والخزي والفخر والاكتئاب والقلق الخ) لاستجابة اجسادنا للشعور بالسعادة، فأعضاء الجسد المستجيبة في الحالتين، أي السعادة والحب، متطابقةً تقريباً بفارق واحد بسيط ومهم في نفس الوقت هو أن اقدامنا لا تستجيب في حالة الحب وتستجيب في حالة السعادة، وكأننا عندما نحب نكون غير مدركين أن لنا اقدام ولا نعترف بها إذ يتوقف الزمان والمكان فتكون لحظة الحب الصادقة مطلقة الوجود عظيمة الحضور، وهذا لعمري شعور لا يضاهيه شيء في عظمته ويخص المحبين فقط دون غيرهم من خلق الله ولا يستطيع بشر أن يأخذ منهم هذه اللحظة فيما بعد لانها محفورة في الروح بماء من نور!

 

اذن، ما جاء في (١) و (٢) هو جل ما نملك حقيقةً في الحياة ولا يزول ولا يمكن أن ينتزع منا ولا من ذاكرتنا حتى يوم القيامة وغيره كله قابل للضياع، وبالتالي كل ما هو غيره يصح أن يقال عليه مجازاً بأنه هباء في نهاية المطاف، مع أنه (أي الماديات) ضرورية في بداية المطاف وخلاله فبدونها لا نستطيع أن نعيش سعداء أو تعساء!

 

إذن: ربما نستطيع أن نصل إلى اجابة متوازنة حول السعادة فنقول أولاً أن عدم توفر الحاجات المادية للحياة يجعل الحياة غير قابلة للتحقق أو غير قابلة للوجود من حيث الأساس، ولكن هذه الماديات لا تقود إلى السعادة فقط لأنها موجودة، أي أن الضرورات المادية شرط للحياة ولكنها لا تحقق السعادة في ذاتها، وبالتالي تكون السعادة مبنيةً على الابعاد غير المادية للحياة مما نملكه فيها كما جاء في (١) و (٢) أعلاه، ويدخل الإيمان الديني أو المعتقدات الأخرى ضمن اللاماديات أو العوامل التي تساهم في السعادة للمتدينين (المؤمنين)!

 

لم تتحدث هذه الكتابة عن العوامل المضادة للسعادة لأن هذه العوامل واضحة جداً للناس، فالجوع والمرض والخوف والحزن والحاجة والظلم والقهر والقمع إلى آخر هذه العوامل ليست بحاجة للشرح فجميعنا يعرفها جيداً وبتمنى الغائها من الوجود!

 

ولا يوجد بيننا من هو خير مطلق أو من هو شر مطلق، فعندما يكثر ما نملك مما ذُكر في (١) و (٢) أعلاه يكبر الخير فينا وعندما يقل يصغر الخير فينا،

التعليقات

اترك تعليقاً